فصل: المسألة التاسعة: (الصامت سابق على المصوت المقصور):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الباب الثاني: في المباحث المستنبطة من الصوت والحروف وأحكامها:

وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: [كيفية حدوث الصوت]:

ذكر الرئيس أبو علي بن سينا في تعريف الصوت أنه كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع، وأقول: إن ماهية الصوت مدركة بحس السمع وليس في الوجود شيء أظهر من المحسوس حتى يعرف المحسوس به، بل هذا الذي ذكره إن كان ولابد فهو إشارة إلى سبب حدوثه، لا إلى تعريف ماهيته.

.المسألة الثانية: [الصوت ليس بجسم]:

يقال إن النظَّام المتكلم كان يزعم أن الصوت جسم، وأبطلوه بوجوه: منها أن الأجسام مشتركة في الجسمية وغير مشتركة في الصوت، ومنها أن الأجسام مبصرة وملموسة أولًا وثانيًا وليس الصوت كذلك، ومنها أن الجسم باقٍ والصوت ليس كذلك، وأقول: النظام كان من أذكياء الناس ويبعد أن يكون مذهبه أن الصوت نفس الجسم، إلا أنه لما ذهب إلى أن سبب حدوث الصوت تموج الهواء ظن الجهال به أنه يقول أنه عين ذلك الهواء.

.المسألة الثالثة: [هل الصوت اصطكاك الأجسام الصلبة]؟

قال بعضهم: الصوت اصطكاك الأجسام الصلبة، وهو باطل؛ لأن الاصطكاك عبارة عن المماسة وهي مبصرة، والصوت ليس كذلك، وقيل: الصوت نفس القرع أو القلع، وقيل إنه تموج الحركة، وكل ذلك باطل؛ لأن هذه الأحوال مبصرة، والصوت غير مبصر، والله أعلم.

.المسألة الرابعة: [هل سبب الصوت تموج الهواء]؟

قيل سببه القريب تموج الهواء، ولا نعني بالتموج حركة انتقالية من مبدأ واحد بعينه إلى منتهى واحد بعينه، بل حالة شبيهة بتموج الهواء فإنه أمر يحدث شيئًا فشيئًا لصدم بعد صدم وسكون بعد سكون، وأما سبب التموج فإمساس عنيف، وهو القرع، أو تفريق عنيف، وهو القلع، ويرجع في تحقيق هذا إلى كتبنا العقلية.

.المسألة الخامسة: [حد الحرف]:

قال الشيخ الرئيس في حد الحرف: إنه هيئة عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله في الخفة والثقل تميزًا في المسموع.

.المسألة السادسة: [حروف المد واللين]:

الحروف إما مصوتة، وهي التي تسمى في النحو حروف المد واللين، ولا يمكن الابتداء بها أو صامتة وهي ما عداها، أما المصوتة فلا شك أنها من الهيئات العارضة للصوت، وأما الصوامت فمنها ما لا يمكن تمديده كالباء والتاء والدال والطاء، وهي لا توجد إلا في الآن الذي هو آخر زمان حبس النفس وأول زمان إرساله، وهي بالنسبة إلى الصوت كالنقطة بالنسبة إلى الخط والآن بالنسبة إلى الزمان، وهذه الحروف ليست بأصوات ولا عوارض أصوات، وإنما هي أمور تحدث في مبدأ حدوث الأصوات، وتسميتها بالحروف حسنة لأن الحرف هو الطرف، وهذه الحروف أطراف الأصوات ومباديها، ومن الصوامت ما يمكن تمديدها بحسب الظاهر، ثم هذه على قسمين: منها ما الظن الغالب أنها آنية الوجود في نفس الأمر، وإن كانت زمانية بحسب الحس، مثل الحاء والخاء، فإن الظن أن هذه جاءت آنية متوالية كل واحد منها آتي الوجود في نفس الأمر، لكن الحس لا يشعر بامتياز بعضها عن بعض فيظنها حرفًا واحدًا زمانيًا، ومنها ما الظن الغالب كونها زمانية في الحقيقة كالسين والشين، فإنها هيئات عارضة للصوت مستمرة باستمراره.

.المسألة السابعة: [الحرف ساكن ومتحرك]:

الحرف لابد وأن يكون إما ساكنًا أو متحركًا، ولا نريد به حلول الحركة والسكون فيه، لأنهما من صفات الأجسام، بل المراد أنه يوجد عقيب الصامت بصوت مخصوص.

.المسألة الثامنة: [الحركات أبعاض المصوتات]:

الحركات أبعاض المصوتات، والدليل عليه أن هذه المصوتات قابلة للزيادة والنقصان ولا طرف في جانب النقصان إلا هذه الحركات، ولأن هذه الحركات إذا مدت حدثت المصوتات وذلك يدل على قولنا.

.المسألة التاسعة: [الصامت سابق على المصوت المقصور]:

الصامت سابق على المصوت المقصور الذي يسمى بالحركة، بدليل أن التكلم بهذه الحركات موقوف على التكلم بالصامت، فلو كانت هذه الحركات سابقة على هذه الصوامت لزم الدور، وهو محال.

.المسألة العاشرة: [الكلام حادث لا قديم]:

الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديمًا لوجهين: الأول: أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية فالسابق المنقضي محدث، لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه، والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لا شك أنه حادث، والثاني: أن الحروف التي منها تألفت الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة، لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة فلو حصلت الحروف معًا لم يكن وقوعها على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها، ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة، واحتج القائلون بقدم الحروف بالعقل والنقل: أما العقل فهو أن لكل واحد من هذه الحروف ماهية مخصوصة باعتبارها تمتاز عما سواها، والماهيات لا تقبل الزوال ولا العدم، فكانت قديمة، وأما النقل فهو أن كلام الله قديم، وكلام الله ليس إلا هذه الحروف، فوجب القول بقدم هذه الحروف، أما أن كلام الله قديم فلأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص، فلو لم يكن كلام الله قديمًا لزم أن يقال إنه تعالى كان في الأزل ناقصًا ثم صار فيما لا يزال كاملًا، وذلك بإجماع المسلمين باطل، وإنما قلنا إن كلام الله تعالى ليس إلا هذه الحروف لوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَد مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} [التوبة: 6] ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف، فدل هذا على أن هذه الحروف كلام الله، وثانيها: أن من حلف على سماع كلام الله تعالى فإنه يتعلق البر والحنث بسماع هذه الحروف، وثالثها: أنه نقل بالتواتر إلينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن هذا القرآن المسموع المتلو هو كلام الله» فمنكره منكر لما عرف بالتواتر من دين محمد عليه الصلاة والسلام فيلزمه الكفر.
والجواب عن الأول أن ما ذكرتم غير مختص بماهية دون ماهي، فيلزمكم قدم الكل، وعن الثاني أن ما ذكرتم من الاستدلال خفي في مقابلة البديهيات فيكون باطلًا.

.المسألة الحادية عشرة: [وصف كلام الله تعالى بالقدم]:

إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز، وأما حديث الحنث والبر فذلك لأن مبنى الأَيمان على العرف، وإذا قلنا: كلام الله قديم، لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات.
وإذا قلنا: كلام الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة، فإن القديم كان موجودًا قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له؟ وإذا قلنا: كلام الله سور وآيات، عنينا به هذه الحروف، وإذا قلنا: كلام الله فصيح، عنينا به هذه الألفاظ، وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضًا هذه الألفاظ.

.المسألة الثانية عشرة: [الأصوات التي نقرأ هل هي كلام الله]؟

زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى، وهذا باطل، لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان، وهذا معلوم الفساد بالضرورة، وأيضًا فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح، وزعموا أنها حالة في ناسوت عيسى عليه السلام، ومع ذلك فهي صفة لله تعالى، وغير زائلة عنه، وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى، ولا فرق بين القولين، إلا أن النصارى قالوا: بهذا القول في حق عيسى وحده، وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب.

.المسألة الثالثة عشرة: [هل الكلام اسم للقدرة على القول]؟

قالت الكرامية: الكلام اسم للقدرة على القول، بدليل أن القادر على النطق يقال إنه متكلم، وإن لم يكن في الحال مشتغلًا بالقول، وأيضًا فضد الكلام هو الخرس، لكن الخرس عبارة عن العجز عن القول، فوجب أن يكون الكلام عبارة عن القدرة على القول، وإذا ثبت هذا فهم يقولون: إن كلام الله تعالى قديم، بمعنى أن قدرته على القول قديمة، أما القول فإنه حادث، هذا تفصيل قولهم وقد أبطلناه.

.المسألة الرابعة عشرة: [خلاف الحشوية والأشعرية في صفة القرآن]:

قالت الحشوية للأشعرية: إن كان مرادكم من قولكم: (إن القرآن قديم) هو أن هذا القرآن دال على صفة قديمة متعلقة بجميع المأمورات والمحرمات وجب أن يكون كل كتاب صنف في الدنيا قديمًا، لأن ذلك الكتاب له مدلول ومفهوم، وكلام الله سبحانه وتعالى لما كان عام التعلق بجميع المتعلقات كان خبرًا عن مدلولات ذلك الكتاب فعلى هذا التقدير لا فرق بين القرآن وبين سائر كتب الفحش والهجو في كونه قديمًا بهذا التفسير، وإن كان المراد من كونه قديمًا وجهًا آخر سوى ذلك فلابد من بيانه.
والجواب أنا لا نلتزم كون كلامه تعالى متعلقًا بجميع المخبرات، وعلى هذا التقدير فيسقط هذا السؤال.
واعلم أنا لا نقول: إن كلامه لا يتعلق بجميع المخبرات لكونها كذبًا، والكذب في كلام الله محال، لأنه تعالى لما أخبر أن أقوامًا أخبروا عن تلك الأكاذيب والفحشيات فهذا لا يكون كذبًا، وإنما يمنع منه لأمر يرجع إلى تنزيه الله تعالى عن النقائص، والأخبار عن هذه الفحشيات والسخفيات يجري مجرى النقص، وهو على الله محال.
واعلم أن مباحث الحرف والصوت وتشريح العضلات الفاعلات للحروف وذكر الإشكالات المذكورة في قدم القرآن أمور صعبة دقيقة، فالأولى الاكتفاء بما ذكرناه، والله أعلم بالصواب.

.الباب الثالث: في المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف:

وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: [الكلمة اسم وفعل وحرف]:

اعلم أن تقسيم الكلمة إلى هذه الأنواع الثلاثة يمكن إيراده من وجهين: الأول: أن الكلمة إما أن يصح الأخبار عنها وبها، وهي الاسم، وإما أن لا يصح الأخبار عنها، لكن يصح الأخبار بها، وهي الفعل، وإما أن لا يصح الأخبار عنها ولا بها، وهو الحرف واعلم أن هذا التقسيم مبني على أن الحرف والفعل لا يصح الأخبار عنهما، وعلى أن الاسم يصح الأخبار عنه، فلنذكر البحثين في مسألتين.

.المسألة الثانية: [الفعل والحرف لا يصح الإخبار عنهما]:

اتفق النحويون على أن الفعل والحرف لا يصح الإخبار عنهما، قالوا: لأنه لا يجوز أن يقال: ضرب قتل، ولقائل أن يقول المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام، وأيضًا فإنه لا يصح أن يقال: جدار سماء، ولم يدل ذلك على أن الاسم لا يصح الأخبار عنه وبه، لأجل أن المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام، فكذا هاهنا، ثم قيل، الذي يدل على صحة الأخبار عن الفعل والحرف وجوه: الأول: أنا إذا أخبرنا عن ضرب يضرب اضرب بأنها أفعال فالمخبر عنه في هذا الخبر إما أن يكون اسمًا أو فعلًا أو حرفًا، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذبًا، وليس كذلك، وإن كان الثاني كان الفعل من حيث أنه فعل مخبرًا عنه، فإن قالوا: المخبر عنه بهذا الخبر هو هذه الصيغ، وهي أسماء قلنا: هذا السؤال ركيك، لأنه على هذا التقدير يكون المخبر عنه بأنه فعل اسمًا، فرجع حاصل هذا السؤال إلى القسم الأول من القسمين المذكورين في أول هذا الإشكال، وقد أبطلناه، الثاني: إذا أخبرنا عن الفعل والحرف بأنه ليس باسم فالتقدير عين ما تقدم، الثالث: أن قولنا: (الفعل لا يخبر عنه) إخبار عنه بأنه لا يخبر عنه، وذلك متناقض، فإن قالوا: المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه هو هذا اللفظ، فنقول: قد أجبنا على هذا السؤال، فإنا نقول: المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه إن كان اسمًا فهو باطل لأن كل اسم مخبر عنه، وأقل درجاته أن يخبر عنه بأنه اسم، وإن كان فعلًا فقد صار الفعل مخبرًا عنه.
الرابع: الفعل من حيث هو فعل والحرف من حيث هو حرف ماهية معلومة متميزة عما عداها، وكل ما كان كذلك صح الأخبار عنه بكونه ممتازًا عن غيره، فإذا أخبرنا عن الفعل من حيث هو فعل بأنه ماهية ممتازة عن الاسم فقد أخبرنا عنه بهذا الامتياز، الخامس: الفعل إما أن يكون عبارة عن الصيغة الدالة على المعنى المخصوص، وإما أن يكون عبارة عن ذلك المعنى المخصوص الذي هو مدلول لهذه الصيغة، فإن كان الأول فقد أخبرنا عنه بكونه دليلًا على المعنى، وإن كان الثاني فقد أخبرنا عنه بكونه مدلولًا لتلك الصيغة، فهذه سؤالات صعبة في هذا المقام.